فصل: فَصْلٌ فِيمَا إِذَا دَامَ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية



.فَصْلٌ فِيمَا إِذَا دَامَ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ:

وَإِذَا دَامَ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْكَشْفِ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِالتَّقَدُّمِ لَمْ يُقْرَعْ بَيْنَهُمَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمَامَةَ عَقْدٌ وَالْقُرْعَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعُقُودِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا وَالْقُرْعَةُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِيمَا لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ كَالْمُنَاكِحِ، وَتَدْخُلُ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَالْأَمْوَالِ وَيَكُونُ دَوَامُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ مُبْطِلًا لِعَقْدَيْ الْإِمَامَةِ فِيهِمَا وَيَسْتَأْنِفُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ عَقْدَهَا لِأَحَدِهِمَا، فَلَوْ أَرَادُوا الْعُدُولَ بِهَا عَنْهُمَا إلَى غَيْرِهِمَا، فَقَدْ قِيلَ بِجَوَازِهِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْهَا، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَيْعَةَ لَهُمَا قَدْ صَرَفَتْ الْإِمَامَةَ عَمَّنْ عَدَاهُمَا وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهَا فِي أَحَدِهِمَا.

.فَصْلٌ فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ بِانْعِقَادِ مَنْ قَبْلَهُ:

وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ لِأَمْرَيْنِ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ بِهَا إلَى أَهْلِ الشُّورَى فَقَبِلَتْ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا وَخَرَجَ بَاقِي الصَّحَابَةِ مِنْهَا، وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الشُّورَى كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الْخُرُوجَ مِنْهُ فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُجْهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَحَقِّ بِهَا وَالْأَقْوَمِ بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي وَاحِدٍ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ وَبِتَفْوِيضِ الْعَهْدِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ ظُهُورُ الرِّضَا مِنْهُمْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إلَى أَنَّ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لِبَيْعَتِهِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهَا لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ إلَّا بِرِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَتَهُ مُنْعَقِدَةٌ وَأَنَّ الرِّضَا بِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَقُّ بِهَا فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى، وَقَوْلُهُ فِيهَا أَنْفَذَ؛ وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ انْفِرَادِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدٍ وَلَا لِوَالِدٍ حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ فَيَرَوْنَهُ أَهْلًا لَهَا فَيَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَزْكِيَةٌ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ؛ وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الْأُمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلَا لِوَلَدٍ وَلَا يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إلَيْهِ بِمَا جُبِلَ مِنْ الْمَيْلِ إلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِهَا لِوَلَدٍ وَوَالِدٍ لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْأُمَّةِ نَافِذُ الْأَمْرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فَغَلَبَ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلتُّهْمَةِ طَرِيقًا عَلَى أَمَانَتِهِ وَلَا سَبِيلًا إلَى مُعَارَضَتِهِ وَصَارَ فِيهَا كَعَهْدِهِ بِهَا إلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَهَلْ يَكُونُ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَهْدِ مُعْتَبَرًا فِي لُزُومِهِ لِلْأُمَّةِ أَوْ لَا؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَالِدِ وَلِذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا يَقْتَنِيهِ فِي الْأَغْلَبِ مَذْخُورًا لِوَلَدِهِ دُونَ وَالِدِهِ؛ فَأَمَّا عَقْدُهَا لِأَخِيهِ وَمَنْ قَارَبَهُ مِنْ عَصَبَتِهِ وَمُنَاسِبِيهِ فَكَعَقْدِهَا لِلْبُعَدَاءِ الْأَجَانِبِ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَا.
وَإِذَا عَهِدَ الْإِمَامُ بِالْخِلَافَةِ إلَى مَنْ يَصِحُّ الْعَهْدُ إلَيْهِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ كَانَ الْعَهْدُ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوَلَّى.
وَاخْتُلِفَ فِي زَمَانِ قَبُولِهِ فَقِيلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ نَظَرُ الْمُوَلَّى؛ وَقِيلَ- وَهُوَ الْأَصَحُّ-: إنَّهُ مَا بَيْنَ عَهْدِ الْمُوَلِّي وَمَوْتِهِ لِتَنْتَقِلَ عَنْهُ الْإِمَامَةُ إلَى الْمُوَلَّى مُسْتَقِرَّةً بِالْقَبُولِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْمُوَلَّى عَزْلُ مَنْ عَهِدَ إلَيْهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ وَإِنْ جَازَ لَهُ عَزْلُ مَنْ اسْتَنَابَهُ مِنْ سَائِرِ خُلَفَائِهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَخْلِفٌ لَهُمْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَجَازَ لَهُ عَزْلُهُمْ وَمُسْتَخْلِفٌ لِوَلِيِّ عَهْدِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ عَزْلُ مَنْ بَايَعُوهُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، فَلَوْ عَهِدَ الْإِمَامُ بَعْدَ عَزْلِ الْأَوَّلِ إلَى ثَانٍ كَانَ عَهْدُ الثَّانِي بَاطِلًا وَالْأَوَّلُ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَإِنْ خَلَعَ الْأَوَّلُ نَفْسَهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعَةُ الثَّانِي حَتَّى يَبْتَدِئَ.
وَإِذَا اسْتَعْفَى وَلِيُّ الْعَهْدِ لَمْ يَبْطُلْ عَهْدُهُ بِالِاسْتِعْفَاءِ حَتَّى يُعْفَى لِلُزُومِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَلَّى ثُمَّ نُظِرَ، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ جَازَ اسْتِعْفَاؤُهُ وَخَرَجَ مِنْ الْعَهْدِ بِإِجْمَاعِهِمَا عَلَى الِاسْتِعْفَاءِ وَالْإِعْفَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْفَاؤُهُ وَلَا إعْفَاؤُهُ وَكَانَ الْعَهْدُ عَلَى لُزُومِهِ مِنْ جِهَتَيْ الْمُوَلَّى وَالْمُوَلِّي؛ وَيُعْتَبَرُ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِي الْمُوَلَّى مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا وَقْتَ الْعَهْدِ وَبَالِغًا عَدْلًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي لَمْ تَصِحَّ خِلَافَتُهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَيْعَتَهُ.
وَإِذَا عَهِدَ الْإِمَامُ إلَى غَائِبٍ هُوَ مَجْهُولُ الْحَيَاةِ لَمْ يَصِحَّ عَهْدُهُ؛ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْحَيَاةِ وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قُدُومِهِ؛ فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَخْلِفُ وَوَلِيُّ الْعَهْدِ عَلَى غَيْبَتِهِ اسْتَقْدَمَهُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ بَعُدَتْ وَاسْتَضَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَأْخِيرِ النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ اسْتَنَابَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ نَائِبًا عَنْهُ يُبَايِعُونَهُ بِالنِّيَابَةِ دُونَ الْخِلَافَةِ فَإِذَا قَدِمَ الْخَلِيفَةُ الْغَائِبُ انْعَزَلَ الْمُسْتَخْلَفُ النَّائِبُ وَكَانَ نَظَرُهُ قَبْلَ قُدُومِ الْخَلِيفَةِ مَاضِيًا وَبَعْدَ قُدُومِهِ مَرْدُودًا، وَلَوْ أَرَادَ وَلِيُّ الْعَهْدِ قَبْلَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَرُدَّ مَا إلَيْهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ لَا تَسْتَقِرُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَخْلِفِ؛ وَهَكَذَا لَوْ قَالَ جَعَلْتُهُ وَلِيَّ عَهْدِي إذَا أَفْضَتْ الْخِلَافَةُ إلَيَّ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ خَلِيفَةً فَلَمْ يَصِحَّ عَهْدُهُ بِالْخِلَافَةِ.
وَإِذَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ نَفْسَهُ انْتَقَلَتْ إلَى وَلِيِّ عَهْدِهِ وَقَامَ خَلْعُهُ مَقَامَ مَوْتِهِ، وَلَوْ عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى اثْنَيْنِ لَمْ يُقَدِّمْ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ جَازَ وَاخْتَارَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ أَحَدَهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَأَهْلِ الشُّورَى فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ.
حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَجَدْتُ عُمَرَ ذَاتَ يَوْمٍ مَكْرُوبًا فَقَالَ مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟ أَقُومُ فِيهِ وَأَقْعُدُ؟ فَقُلْتُ هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ؟ فَقَالَ إنَّهُ لَهَا لَأَهْلٌ وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ فِيهِ دُعَابَةٌ وَإِنِّي لَأُرَاهُ لَوْ تَوَلَّى أَمْرَكُمْ لَحَمَلَكُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ الْحَقِّ تَعْرِفُونَهَا، قَالَ قُلْتُ فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ لَوْ فَعَلْتُ لَحَمَلَ ابْنُ أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ ثُمَّ لَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ الْعَرَبُ حَتَّى تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَاَللَّهِ لَوْ فَعَلْتُ لَفَعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَفَعَلُوا؛ قَالَ فَقُلْتُ فَطَلْحَةُ؟ قَالَ إنَّهُ لَزَهْوٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُوَلِّيَهُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا يَعْلَمُ مِنْ زَهْوِهِ، قَالَ قُلْتُ فَالزُّبَيْرُ؟ قَالَ إنَّهُ لَبَطَلٌ وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ بِالْبَقِيعِ بِالسُّوقِ أَفَذَاكَ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ فَقُلْتُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ؟ قَالَ لَيْسَ هُنَاكَ إنَّهُ لَصَاحِبُ مَقْتَبٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ؛ فَأَمَّا وَلِيُّ أَمْرٍ فَلَا، قَالَ فَقُلْتُ فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ؟ قَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ ذَكَرْتَ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، إنَّهُ وَاَللَّهِ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إلَّا الْقَوِيُّ فِي غَيْرِ عُنْفٍ اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، وَالْمُمْسِكُ مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ، وَالْجَوَادُ فِي غَيْرِ إسْرَافٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا جَرَحَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ وَآيِسَ الطَّبِيبَ مِنْ نَفْسِهِ وَقَالُوا لَهُ اعْهَدْ جَعَلَهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ وَقَالَ: هَذَا الْأَمْرُ إلَى عَلِيٍّ وَبِإِزَائِهِ الزُّبَيْرُ، وَإِلَى عُثْمَانَ وَبِإِزَائِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَإِلَى طَلْحَةَ وَبِإِزَائِهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلِمَا جَازَ الشُّورَى بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ طَلْحَةُ جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ سَعْدٌ جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَصَارَتْ الشُّورَى بَعْدَ السِّتَّةِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَخَرَجَ مِنْهَا أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَيُّكُمْ يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَنَجْعَلُهُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عَلَيْهِ شَهِيدٌ لِيَحْرِصَ عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَتَجْعَلُونَهُ إلَيَّ وَأُخْرِجُ نَفْسِي مِنْهُ وَاَللَّهُ عَلَيَّ شَهِيدٌ عَلَى أَنِّي لَا آلُوكُمْ نُصْحًا فَقَالَا نَعَمْ فَقَالَ قَدْ فَعَلْتُ فَصَارَتْ الشُّورَى بَعْدَ السِّتَّةِ فِي ثَلَاثَةٍ ثُمَّ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فِي اثْنَيْنِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ ثُمَّ مَضَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَسْتَعْلِمَ مِنْ النَّاسِ مَا عِنْدَهُمْ فَلَمَّا أَجَنَّهُمْ اللَّيْلُ اسْتَدْعَى الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَأَشْرَكَهُ مَعَهُ ثُمَّ حَضَرَ فَأَخَذَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعُهُودَ أَيُّهُمَا بُويِعَ لَيَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَلَئِنْ بَايَعَ لِغَيْرِهِ لَيَسْمَعَنَّ وَلَيُطِيعَنَّ ثُمَّ بَايَعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ.
فَكَانَتْ الشُّورَى الَّتِي دَخَلَ أَهْلُ الْإِمَامَةِ فِيهَا وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا أَصْلًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ بِالْعَهْدِ وَفِي انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ بِعَدَدٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِمَامَةُ لِأَحَدِهِمْ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُجْعَلَ شُورَى فِي اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إذَا كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا.
وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنْ لَا تُجْعَلَ الْإِمَامَةُ بَعْدَهُ فِي غَيْرِهِمْ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ بِالِاخْتِيَارِ فِي أَحَدِهِمْ جَازَ لِمَنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ الْإِمَامَةُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ إذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ شُورَى فِي عَدَدٍ أَنْ يَخْتَارُوا أَحَدَهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَخْلِفِ الْعَاهِدِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الِاخْتِيَارِ فِي حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ بِالْإِمَامَةِ أَحَقُّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكَ فِيهَا، فَإِنْ خَافُوا انْتِشَارَ الْأَمْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ اسْتَأْذَنُوهُ وَاخْتَارُوا إنْ أَذِنَ لَهُمْ، فَإِنْ صَارَ إلَى حَالِ إيَاسٍ نُظِرَ، فَإِنْ زَالَ عَنْهُ أَمْرُهُ وَغَرَبَ عَنْهُ رَأْيُهُ فَهِيَ كَحَالِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي جَوَازِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى تَمْيِيزِهِ وَصِحَّةِ رَأْيِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الِاخْتِيَارُ إلَّا عَنْ إذْنِهِ.
حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ مَجْرُوحًا سَمِعَ هَدَّةً فَقَالَ مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَقَالُوا: اعْهَدْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا عُثْمَانَ: فَقَالَ كَيْفَ يُحِبُّ الْمَالَ وَالْجَنَّةَ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ سَمِعَ لَهُمْ هَدَّةً فَقَالَ مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ فَأَذِنَ لَهُمْ فَقَالُوا اسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ إذَنْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ هِيَ الْحَقُّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُومِنِينَ وَمَا يَمْنَعُكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ يَا بُنَيَّ أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا؟، وَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَهْلِ الْعَهْدِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا اخْتِيَارُ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ إلَّا تَقْلِيدُ مَنْ عَهِدَ إلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ خِلَافَتِهِ.
وَلَوْ عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَرَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ فَقَالَ الْخَلِيفَةُ بَعْدِي فُلَانٌ فَإِنْ مَاتَ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ فُلَانٌ فَإِنْ مَاتَ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ فُلَانٌ جَازَ وَكَانَتْ الْخِلَافَةُ مُتَنَقِّلَةً إلَى الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا رَتَّبَهَا، فَقَدْ اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَيْشِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ: «فَإِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنْ أُصِيبَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَإِنْ أُصِيبَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا» فَتَقَدَّمَ زَيْدٌ فَقُتِلَ فَأَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ وَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ فَاخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ. وَإِذْ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الْإِمَارَةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْخِلَافَةِ.
فَإِنْ قِيلَ هِيَ عَقْدُ وِلَايَةٍ عَلَى صِفَةٍ وَشَرْطٍ وَالْوِلَايَاتُ لَا يَقِفُ عَقْدُهَا عَلَى الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ.
قِيلَ هَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَّسِعُ حُكْمُهَا عَلَى أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ، فَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ فِي الدَّوْلَتَيْنِ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ، هَذَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَهِدَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثُمَّ بَعْدَهُ إلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ سُلَيْمَانُ حُجَّةً فَإِقْرَارُ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَمَنْ لَا يَخَافُونَ فِي الْحَقِّ لَوْمَةَ لَائِمٍ هُوَ الْحُجَّةُ؛ وَقَدْ رَتَّبَهَا الرَّشِيدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِيهِ فِي الْأَمِينِ ثُمَّ الْمَأْمُونِ ثُمَّ الْمُؤْتَمَنِ عَنْ مَشُورَةِ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ فُضَلَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِذَا عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى ثَلَاثَةٍ رَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ وَمَاتَ وَالثَّلَاثَةُ أَحْيَاءُ كَانَتْ الْخِلَافَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْأَوَّلِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ كَانَتْ الْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّانِي؛ وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ فَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّالِثِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ بِالْعَهْدِ إلَيْهِ حُكْمُ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ.
وَلَوْ مَاتَ الْخَلِيفَةُ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عَهْدِهِ أَحْيَاءُ وَأَفْضَتْ الْخِلَافَةُ إلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمْ فَأَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَخْتَارُهُ لَهَا، فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ إلَّا أَنْ يَسْتَنْزِلَ عَنْهَا مُسْتَحِقَّهَا طَوْعًا.
فَقَدْ عَهِدَ السَّفَّاحُ إلَى الْمَنْصُورِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجَعَلَ الْعَهْدَ بَعْدَهُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ تَقْدِيمَ الْمَهْدِيِّ عَلَى عِيسَى فَاسْتَنْزَلَهُ عَنْ الْعَهْدِ عَفْوًا لِحَقِّهِ فِيهِ وَفُقَهَاءُ الْوَقْتِ عَلَى تَوَافُرٍ وَتَكَاثُرٍ لَمْ يَرَوْا لَهُ فُسْحَةً فِي صَرْفِهِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ قَسْرًا حَتَّى اسْتَنْزَلَ وَاسْتَطْيَبَ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ الْخِلَافَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ وَيَصْرِفُهَا عَمَّنْ كَانَ مُرَتَّبًا مَعَهُ وَيَكُونُ هَذَا التَّرْتِيبُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَخْلِفِ، فَإِذَا أَفْضَتْ الْخِلَافَةُ مِنْهُمْ إلَى أَحَدِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا بَعْدَهُ فِي الْعَهْدِ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ عَامَّ الْوِلَايَةِ نَافِذَ الْأَمْرِ فَكَانَ حَقُّهُ فِيهَا أَقْوَى وَعَهْدُهُ بِهَا أَمْضَى وَخَالَفَ هَذَا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَرْتِيبِ أُمَرَائِهِ عَلَى جَيْشِ مُؤْتَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَيَاةِ حَيْثُ لَمْ تَنْتَقِلْ أُمُورُهُمْ إلَى غَيْرِهِ وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْأَمْرِ بِمَوْتِهِ إلَى غَيْرِهِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعَهْدَيْنِ.
وَأَمَّا اسْتِطَابَةُ الْمَنْصُورِ نَفْسَ عِيسَى بْنِ مُوسَى فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَأَلُّفَ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَهُمْ مُنْتَشِرٌ وَفِي أَحْشَائِهِمْ نُفُورٌ مُوهِنٌ فَفَعَلَهُ سِيَاسَةً وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ سَائِغًا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى غَيْرِهِمَا كَانَ الثَّانِي هُوَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ بِالْعَهْدِ الْأَوَّلِ وَقُدِّمَ عَلَى الثَّالِثِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَلَوْ مَاتَ هَذَا الثَّانِي قَبْلَ عَهْدٍ صَارَ الثَّالِثُ هُوَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ صِحَّةَ عَهْدِ الْعَاهِدِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ حُكْمِهِ فِي الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ يُجَدِّدْ بَعْدَهُ عَهْدًا يُخَالِفُهُ فَيَصِيرُ الْعَهْدُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ الثَّلَاثَةِ حَتْمًا وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْأَوَّلِ فَانْحَتَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ عَنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَوَقَفَ.
وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْهَدَ إلَى أَحَدٍ فَأَرَادَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَخْتَارُوا لِلْخِلَافَةِ غَيْرَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الثَّانِي بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارُوا لَهَا غَيْرَ الثَّالِثِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا الثَّانِي إلَى غَيْرِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ نَصٌّ لَا يُسْتَعْمَلُ الِاخْتِيَارُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْخَلِيفَةُ الْعَاهِدُ قَدْ عَهِدْتُ إلَى فُلَانٍ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ فَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ فُلَانٌ لَمْ تَصِحَّ خِلَافَةُ الثَّانِي وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَهْدُهُ بِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْهَدْ إلَيْهِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إفْضَائِهَا إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ عَهْدُ الثَّانِي بِهَا مُنَفَّذًا فَلِذَلِكَ بَطَلَ وَجَازَ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ جَازَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ اخْتِيَارُ غَيْرِهِ.
فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ الْخِلَافَةُ لِمَنْ تَقَلَّدَهَا إمَّا بِعَهْدٍ أَوْ اخْتِيَارٍ لَزِمَ كَافَّةَ الْأُمَّةِ أَنْ يَعْرِفُوا إفْضَاءَ الْخِلَافَةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا بِصِفَاتِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْرِفُوهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ إلَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمْ الْحُجَّةُ وَبِبَيْعَتِهِمْ تَنْعَقِدُ الْخِلَافَةُ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَرِيرٍ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ كَمَا عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْإِمَامِ تَلْزَمُ الْكَافَّةَ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ، وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْرِفَهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ إلَّا عِنْدَ النَّوَازِلِ الَّتِي تُحْوِجُ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقُضَاةِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْأَحْكَامُ وَالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُفْتُونَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَلْزَمُ الْعَامَّةَ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ إلَّا عِنْدَ النَّوَازِلِ الْمُحْوِجَةِ إلَيْهِمْ، وَلَوْ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامَ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ لَلَزِمَتْ الْهِجْرَةُ إلَيْهِ وَلَمَا جَازَ تَخَلُّفُ الْأَبَاعِدِ وَلَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى خُلُوِّ الْأَوْطَانِ وَلَصَارَ مِنْ الْعُرْفِ خَارِجًا وَبِالْفَسَادِ عَائِدًا، وَإِذَا لَزِمَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ افْتِيَاتٍ عَلَيْهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ لَهُ لِيَقُومَ بِمَا وُكِّلَ إلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَتَدْبِيرِ الْأَعْمَالِ، وَيُسَمَّى خَلِيفَةً لِأَنَّهُ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى الْإِطْلَاقِ فَيُقَالُ الْخَلِيفَةُ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ؟ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لِقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}.
وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ وَنَسَبُوا قَائِلَهُ إلَى الْفُجُورِ وَقَالُوا: يُسْتَخْلَفُ مَنْ يَغِيبُ أَوْ يَمُوتُ وَاَللَّهُ لَا يَغِيبُ وَلَا يَمُوتُ، وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ، فَقَالَ: لَسْتُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.